في زحام الانتخابات الرئاسية الحالية وطغيانها على كل شيء، قلما انتبه المراقبون إلى إسقاط وزارة الخارجية الأميركية لاسم كوريا الشمالية من قائمتها الخاصة بالدول الراعية للإرهاب مؤخراً. وقد استقبل الزعيم الكوري الشمالي كيم جونج إيل هذا الإجراء، باعتباره تنازلاً أميركياً لم يكن ليخطر بمخيلته قبل عام واحد فحسب. أما الجمهور الأميركي الذي بدت له أزمة "وول ستريت" أكثر تهديداً لأمنه وحياته من خطر بيونج يانج النووي، فلم يعر الأمر اهتماماً. وعليه فإنه قلما وُوجِه انعطاف تاريخي كهذا في السياسات الخارجية الأميركية بهذا القدر من الفتور واللامبالاة. وبإبرامه لهذه الصفقة السلمية مع رئيس دولة كان قد صنفها ووضعها في قائمة "محور الشر"، ففي ذلك ما يشير إلى تخلي بوش عن جملة المبادئ التي كان قد صاغها عقب هجمات الحادي عشر من سبتمبر مباشرة. وبالنتيجة، فقد تحول الرئيس بوش الذي حدد دور أميركا ذات يوم بكونها القوة العظمى المنوط بها وضع حد للاستبداد، إلى شخصية متصالحة مع النظام الستاليني الحاكم في بيونج يانج! ورغم أن بوش لا يزال يشغل البيت الأبيض، فإن عهد إداراته قد انقضى عملياً. ومثله أيضاً انقضت سلسلة من مشاهد السايكو-دراما الأميركية. فخلال العام الماضي أو نحوه، طرأ تغير كبير ومذهل على الحالة الذهنية الأميركية عموماً. واستتبع ذلك التحول، تغيرات كبيرة في الطريقة التي ننظر بها إلى أنفسنا والعالم من حولنا، بصفتنا أميركيين. والحق أن ميل الأميركيين إلى النظر إلى التاريخ باعتباره سلسلة من الأحداث الكبرى العظيمة التي يصنعها القادة الأفذاذ، غالباً ما يتجاهل الدور الهائل الذي تؤديه السيكولوجيا الاجتماعية العامة، أي الرأي العام. والحقيقة أنه حين يتعلق الأمر بإدارة الدولة نفسها، فإنه يندر أن تعكس السياسات التي تصنع في واشنطن، آراء ونوايا القادة الأميركيين، استناداً إلى مرجعيتها الشعبية العامة. فعلى سبيل المثال، تولى الرئيس الأسبق "جيمس بولك" مهامه في البيت الأبيض عام 1845 وهو على أشد العزم على فصل كاليفورنيا عن المكسيك. لكن ما الذي فل عزم الرئيس "بولك" ونهاه عن ترجمة تلك النوايا إلى فعل؟ الإجابة هي فكرة "المصير الواضح" التي حملت أميركا مسؤولية نشر الحريات غرباً باتجاه المحيط الهادئ. ولم يكن الرئيس "بولك" هو من اخترع تلك الفكرة، كما لم تتسن له السيطرة عليها. عندها كان الرئيس من الحكمة والذكاء بحيث سمح لذلك الإلحاح على نشر الحرية بالتعبير عن نفسه. وبذلك أمكن له تحويل ما بدا مجرد طمع أميركي في الاستحواذ على المزيد من أراضي الغير والتوسع فيها، إلى حق مشروع مكتسب باسم نشر الحرية وتمديدها غرباً. وهكذا كللت الحرب المكسيكية بنصر مؤزر عظيم. وفي حالة أخرى مماثلة، تمكنت الولايات المتحدة من توسيع أراضيها إلى إمبراطورية شاسعة إبان الحرب الإسبانية في عام 1898، بضمها لكل بورتو ريكو وجزر الفلبين وهاواي. غير أن أكثر ما أقنع ملايين الأميركيين برفض استمرار الوجود العسكري الإسباني في منطقة الكاريبي، هو الحماس العام لنشر الحرية وتحرير الشعب الكوبي، أكثر مما فعل نهم الرئيس الأميركي الأسبق "ماكينلي" التوسعي الاستعماري. وقد نجح ذلك الحماس الشعبي العام، في جعل إحلال القوة الأميركية في منطقة الكاريبي محل القوة الإسبانية، واجباً أخلاقياً لا حياد عنه. وبذلك، فقد كان كل ما هو مطلوب فعله من الرئيس ماكينلي هو استثمار ذلك المزاج العام، بما يسمح له بخدمة أجندته ونواياه التوسعية الخاصة. لكن المعضلة التي يواجهها صناع السياسات هي أن المزاج الشعبي ليس حالة مستقرة وثابتة، بل هو قابل للانقلاب الفجائي في أي لحظة ودون سابق إنذار. تلك هي الحقيقة التي سرعان ما اكتشفها الرئيس الأسبق ويلسون في أعقاب الحرب العالمية الأولى مباشرة. فما أكثر الأميركيين الذين انقلبوا على وعدهم له بالانضمام إلى حملته الرامية إلى جعل العالم أكثر أمناً لانتشار مثل الحرية والديمقراطية، فارتدوا عليه مفضلين العودة إلى نهج "حياتهم الطبيعية" الخالية من هموم الأجندة الدولية. ونتيجة لذلك الانقلاب في المزاج الشعبي، صوت مجلس الشيوخ في عام 1919 بإقرار رفض انضمام الولايات المتحدة إلى "عصبة الأمم" التي طالما تعلق بها "ويلسون" وحلم. ومثله انفض سامر الأميركيين وانقلب مزاجهم الشعبي العام، على ترسانة أجندة التدخل الخارجي في شؤون الدول والأمم، التي أطلقها بوش عقب هجمات 11 سبتمبر، مع العلم أن الهدف منها هو نشر الحرية والديمقراطية ومكافحة المتطرفين والإرهابيين بجبروت القوة العسكرية الأميركية. تمثلت هذه السياسات في شن الحروب الاستباقية، وأوهام ظمأ الشعوب العربية الإسلامية إلى الحرية والديمقراطية على الطراز الأميركي الغربي، وسحق التطرف وغيرها. وبفعل تأثير صدمة هجمات 11 سبتمبر، فقد راجت هذه الأجندة ووجدت لها صدى وقبولاً واسعاً في أوساط الأميركيين. لكن ما إن تكشف للأميركيين أن "روما" الإمبراطورية الحديثة التي سعى بوش إلى تأسيسها، تحمل معها السموم كما الدسم، وتثقل حياتهم بالأعباء والمصاعب، حتى ما تخلوا عنها وانفضوا من حول الرئيس، تاركين إدارته عظماً بلا لحم شعبي يحميه ويسنده. ورغم أن شعار "التغيير" هو الشعار الرئيسي المسيطر اليوم على مسار حملتي ماكين وأوباما، فإن التغيير قد تم فعلياً بإعلان الشعب الأميركي لرأيه: لقد انتهى عصر الانتصارات الأميركية. أندرو جي. باسيفيتش أستاذ التاريخ والعلاقات الدولية بجامعة "بوسطن" ينشر بترتيب خاص مع خدمة "لوس أنجلوس تايمز وواشنطن بوست"